مقدمة
ما أوسع الفرق بين نابليون وجدعون، وبين تكتيك المدفعية الثقيلة وتكتيك الجرار الفارغة. كان نابليون في الحرب لا يؤمن بالله، ويقول ساخراً إن الله مع المدفعية الثقيلة، وكان يؤمن بثلاثة عناصر يقوم عليها النجاح في الحرب: عدد الجنود، والتسلح الجيد، وعبقرية القيادة. ومن العجيب أن الثلاثة توفرت له، ومع ذلك هزم هزيمة منكرة، فقد قاد حملته إلى روسيا، وكان تكتيك الروس الانسحاب أمامه وحرق المدن بكاملها حتى لا يجد ملجأ أو طعاماً، وذهب بنصف مليون جندي، وعاد ببضعة آلاف، قد لا تصل إلى الخمسين ألفاً، وعندما سئل عن سر الهزيمة قال: لقد هزمني الچنرال يناير، ويقصد بذلك الشتاء الروسي، وفي آخر معاركه ووترلو، وفي شهادة واحد من كبار العسكريين أنه وفقاً للحساب البشري والتخطيط العسكري، كان أوفر حظاً من ولنجنتون، وعندما سئل: ومن الذي هزمه إذاً؟.. أجاب! الله هزم نابليون رغم عبقريته العسكرية، أو مدفعيته الثقيلة،..
لم يعرف جدعون العدد الكثير فقد أمره الله ألا يبقى من جيش قوامه اثنان وثلاثون ألفاً وثلاثمائة من الجنود، وألا يحمل معه سيفاً واحداً، وأن يتسلح بثلاثمائة من الجرار الفارغة، وثلاثمائة من الأبواق، وثلاثمائة مصباح، وكان تكتيكه العسكري، أن يضرب الجنود بالأبواق، وأن يكسروا الجرار، وأن يرفعوا المصابيح في أيديهم، وذلك في أول الهزيع الأوسط، عندما كان جنود الأعداء غارقين في النوم العميق قبيل منتصف الليل بقليل،.. وعندما نسأل بعد ذلك، ومن الذي هزم المديانيين إذاً؟ لا نجد سوى الجواب الوحيد: الله هزم المديانيين، ويهزم في كل جيل وعصر الطغاة مهما كان عددهم ومهما كانت أسلحتهم. إن قصة جدعون من أمتع وأصدق القصص التي يجمل أن نضعها أمام أنظارنا، ونحن نخوض حرب الحياة، ومعارك الأيام!!..
جدعون والقوى الداخلية الكامنة فيه
هل رأيت جدعون عندما باغته ملاك الرب، وقال له الرب معك يا جبار البأس؟، كان جدعون في ذلك في الحضيض نفسياً، في أسوأ حالة يمكن أن يكون عليها الإنسان، وجهه مملوء بالتراب، وعيناه لا تكادان تقويان على النظر، جلس الملاك أمامه تحت البطمة، وهو عاجز عن رؤياه، والأعجب أن الملاك مع هذا كله يناديه قائلاً: الرب معك يا جبار البأس، وهي في نظره سخرية ما بعدها سخرية، كيف يمكن أن يكون جباراً، وهو الخائف من المديانيين والذي يخبط الحنطة في المعصرة ليهربها من المديانيين، ويكاد يخاف من ظله هو؟.. ولكن الملاك مع ذلك يرى فيه رجلاً جبار بأس، وأن هناك قوى هاجعة في داخله توشك أن تستيقظ، وتوشك أن يكشفها الله له!!.. هل حقاً ما قاله أحدهم: إن الناس أربعة.. رجل يجهل، ويجهل أنه يجهل، ذلك مدع أتركه.. ورجل يجهل ويعلم أنه يجهل، ذلك بسيط علمه،.. ورجل يعلم، ويجهل أنه يعلم ذلك نائم أيقظه،.. ورجل يعلم، ويعلم أنه يعلم، ذلك معلم اتبعه!!.. كان جدعون الجبار النائم الذي جاء الله ليرفع عنه التراب الذي يعفر وجهه، ويخرجه من المعصرة التي اختبأ فيها، ومن الظلام الذي حاول أن يتدثر به!!.. ومن الندم الذي وصل إليه حتى عجز عن أن يدرك جبروته الصحيح!
الجبار الصريح
وكانت هذه سمة من أفضل سمات الرجل، إنه ذلك الإنسان الصريح الذي لا يخبئ في أعماقه شيئاً يداور به الواقع الذي يعيشه،.. قال له الغريب: الرب معك،.. وكان الجواب: لا يا سيدي، إنني لا أستطيع أن أصدق هذه الحقيقة، وذلك لأن الرب الذي تذكره لي، يختلف تماماً عن الذي حدثنا به آباؤنا: "وإذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا، قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان".. هذا رجل صريح لا يداور الحقيقة التي يلمسها بيديه، وهو يطرحها أمام الغريب الذي يتحدث معه دون سابق معرفة،.. ساوره الشك، وهو من أخلص الناس في شكوكهم، وهو يطرح تجاربه الذهنية دون لف أو دوران أمام ملاك الرب وهو لا يعلم، وما أجمل أن يكون الإنسان صريحاً، شفافاً كالبلور، أمام الله، يعكس الظلال التي تقع عليها دون أن يغطيها أو يداريها، وهذا أعظم وأجدى أمام السيد، من التكلف والتصنع والمداورة،.. فمن الناس من يملأ قلبه التذمر، وهو يدعى الشكر، أو يمتليء بالغيظ وهو يدعي الرضا!!.. جيد عند الرب أن تتحدث بشكوكك ومتاعبك ومخاوفك وضيقك، ولن يضيق الرب بهذا الإحساس ما دمت صادقاً مخلصاً أميناً. إن صفحات الكتاب ممتلئة بهذه الحقيقة من أناس جابهوا الله بما يعتمد في صدرهم بدون مواراة،.. وهل رأيت أجرأ من يقول لله مع موسى محتجاً، وهو يرى أن مقابلته لفرعون، لم تخرج الشعب، بل زادت الطينة بلة، أو زاد الثقل عليهم: "فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب لماذا أرسلتني لأنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك"؟؟ وهل وقفت مع إيليا وهو يصرخ لله ويقول: "أيها الرب إلهي أأيضاً إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها؟؟".
وهل سمعت آساف وهو يكاد يترك الدين: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح؟؟"..
وهل ذكرت أرميا وقد ناله الجهد والتعب، إلى درجة التصميم أن لا يذكر اسم الرب بعد: "فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع؟؟"..
وهل أدركت حبقوق وهو يبدأ سفره: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟؟"..
وهل تابعت المعمدان وهو يرسل تلميذيه إلى السيد قائلاً: "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟؟".. هؤلاء جميعاً كانوا على لظى الشكوك، ولكنهم كشفوا أعمال نفوسهم لله، ولم يضق الله بشكهم، إذ كانوا أمناء صادقين دون خداع أو ختال أو رياء!!.
إن هناك فرقاً بين شك وشك،.. هناك من يشك كجدعون، دون أن تكون له الرغبة في التمسك بالشك أو الإبقاء عليه، على العكس ممن يشك وهو مصر على عدم التحول عن هذا الشك، مهما كانت البراهين واضحة أمامه،.. قيل عن الواعظ العظيم فردريك روبرتسن أنه عاش سنوات متعددة في صراع مع الشك، كان أميناً في بسط هذا الشك أمام الله، ولم تضعف الوساوس خدمته على الإطلاق، حتى انتصر في معركة الشك، وخرج إلى إيمانه العظيم بالله،.. قيل عن اثنين من اسكتلندا كان أحدهما شاباً والآخر عجوزاً: كان الشاب مهما تلونت الظروف معه، يؤمن بأنه يسير إلى جوار الله، وكان يتكلم على الطريق معه، كما يكلم الإنسان صاحبه الذي يتمشى معه، وكان الآخر عجوزاً، مرض وطال مرضه، وكان يضع إلى جواره كرسياً يطلق عليه كرسي الله، وقد رأوه في لحظة الموت، وقد مد يده إلى الكرسي، وعلق أحدهم بالقول هل كان الكرسي خالياً؟!!. كن صريحاً أبلغ الصراحة مع الله، ما دمت مؤمناً يملؤك الإخلاص الذي يعلم الله!!..
الجبار الوديع
لم يكن وديعاً فحسب، بل كان رائعاً في وداعته،.. يقول له الملاك: "اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان ؛ أما أرسلتك ؟! فقال له أسألك يا سيدي بماذا أخلص إسرائيل ؟ ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي".. هل وقفت أمام الجبار الذي يقول: "أنا الأصغر؟؟، وهل وقفت أمام سر من أعظم الأسرار في حياة الأبطال الناجحين الذي يرون نفوسهم على حقيقتها ويقولون: "أنا الأصغر؟؟.. هل علمت لماذا ترك بولس اسمه القديم "شاول"، وعرفه العالم باسم بولس الذي يعني "صغير" لأنه أدرك هذه الحقيقة، إنه يبدأ ويعيش وينتهي تحت إحساس الإنسان الصغير، مهما فعل في هذه الدنيا،.. بل هل نعلم بأنه نافس جدعون منافسة قوية في التعبير "الأصغر" فعندما وازن بين نفسه والرسل قال: "وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله"؟؟ على أنه في الموازنة أكثر من ذلك مع القديسين قال: "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى" لم يضع بولس مجرد الموازنة مع الرسل ليرى نفسه أصغرهم، بل مع جميع القديسين ليقول أنا الأصغر!!..
هل الإحساس بالأصغر هو المغالاة في التعبير عند جدعون أو بولس أو من على شاكلتهما من العظماء؟ أو هو الاكتشاف الصحيح الذي ينبغي أن يكتشفه جبابرة الأرض أمام السيد: "الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن الذي يجعل العظماء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل".. وهل يزيد الإنسان أمام الله مهما كانت عظمته عن الجندب أو الجراد؟؟ وما الفرق بين جرادة وجرادة؟؟ لو أنك رأيت نملاً يندفع في خط طويل أمامك، ما الفرق بين نملة وأخرى؟؟ إذا رأيت عشباً هنا أو عشباً هناك، ما الفرق بين هذا وذاك؟؟ والإنسان عشب: "كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل يبس العشب ذبل الزهر لأن نفخة الرب هبت عليه حقاً الشعب عشب يبس الشعب ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد".. عندما اعتلت الملكة ولهلمينا عرش هولندا، علمتها أمها دائماً أن تكون متواضعة صغيرة،.. ذات مرة طرقت غرفة أمها، وعندما صاحت الأم: من بالخارج؟؟ جاء الجواب: ملكة هولندا.. أريد الدخول،.. ولم يكن من مجيب!!.. وعادت الابنة تطرق.. وكان السؤال من بالخارج؟.. وجاء الجواب: ولهلمينا هولندا؟!!.. ولم يكن من مجيب، ثم طرقت الابنة مرة ثالثة: وإذا بالسؤال: من بالخارج؟.. وكان الجواب ابنتك الصغيرة وعندئذ قالت الأم: ادخلي!!.
كان لورد كلفن من أعظم علماء علم الأحياء، وكانوا يسألونه عما فعل وأنجز.. فيأتي الجواب: لا شيء وحياتي فاشلة!!.. وعندما انتصر إبراهام لنكولن على منافسه، وأصبح رئيساً للولايات المتحدة.. قال: في الحقيقة أنا لا أصلح أن أكون رئيس الولايات المتحدة.. وطالما سمع الناس أينشتين العظيم يقول: إن سر ما وصل إليه يرجع إلى العديد من تلاميذه المجهولين غير المعروفين!!.. لقد بلغ جدعون السر الذي قال عنه المسيح لتلاميذه بعد قرون طويلة، وهو يقيم ولداً صغيراً في الوسط، إذ رآهم يتشاجرون عمن يكون الأعظم،.. وقال: "لأن الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً"..
الجبار المناضل
عندما جاءه الملاك، لم يجده مسترخياً في مكانه، أو نائماً في سريره بل جاءه في الوقت الذي كان فيه يخبط الحنطة، ويبدو أنها كانت كمية قليلة لا تحتاج إلى نورج، أو أنه لا يجد النورج بسهولة، فهو يقوم بالعمل مهما كلفه من جهد وتعب، كان الرجل بطبيعته مناضلاً متحركاً، وهو لهذا من النوع المحبوب لدى الله،.. إن الله لا يهتم بنوع العمل الذي تقوم به، ومقدار ما فيه من عظمة وجلال ومجد، بل يهمه أولاً وأخيراً أن تقوم بالعمل بأمانة وجد وإخلاص، مهما بدا العمل صغيراً أو حقيراً.. عندما طلب الله موسى، طلبه وهو يرعى أغنام حميه في مديان، وعندما طلبه داود كان داود وراء الأغنام في بيت لحم، وعندما وجد جدعون وجده وهو يخبط الحنطة،.. قم بعملك مهما كان صغيراً، ولا تنتظر مؤجلاً العمل حتى تصل إلى ظروف أسمى وأفضل، إن الله يأتي إليك حتى ولو كنت وراء قليل من الحنطة، تعمل في معصرة دون أن ينتبه إليك أحد. قيل عن رجل حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وكان الرجل يهوى الموسيقى ولم يقل الرجل أن لا أمل في الخروج، بل كان في السجن يلحن ويدرس الموسيقى حتى أصبح من أعظم رجال الموسيقى في عصره، وخرج من السجن بالعفو ليجد نفسه يسمع الدنيا بأكملها موسيقاه،.. قد تكون سجين ظروف قاسية في سجن الفقر، أو الاضطهاد، أو المرض، أو التعب، أو العزلة، اعمل دون أن تستهين يوماً بالأمور الصغيرة، فإن أعظم أعمال الدنيا جاءت من أناس بدئوا صغاراً وعملوا!!..
جدعون والخطية المانعة
كان السؤال الذي وضعه جدعون أمام الملاك: هل تغير الله؟. ولماذا لا تظهر عجائبه التي سمعها من آبائه وأجداده؟؟ وكان عليه أن يعلم أن الله ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. وأن البشر هم الذين يتغيرون، ويكفي أن يلقى جدعون أقرب نظرة إليه، في بيته وعند أبيه ليرى كم كان التغيير مخيفاً ومؤلماً وبشعاً،.. لقد تفشت الوثنية في الشعب إلى درجة أن أباه أقام مذبحاً للبعل، ويعتقد البعض أن هذا المذبح كان لأبيه خاصة، ويرى آخرون بأنه كان لأبيه وللمدينة كلها، وما من شك بأن الله ضاق بهذا التحول عنه، وسلم الشعب للأعداء، وكان لا يمكن أن ينقذهم قبل أن يطهرهم من الفساد الذي وصلوا إليه، وهذا التطهير له الجانب السلبي في هدم مذبح البعل، والجانب الإيجابي في بناء مذبح الرب على رأس الحصن ليبقى مرتفعاً ومنظوراً من الجميع، وهناك تساؤل: هل قدم جدعون العجلين ذبيحة أو العجل الواحد؟؟ وأغلب الظن أنه قدم عن نفسه عجل أبيه، لكن الأهم كان العجل ابن السبع سنين، وهي سنو الفساد والاستعباد التي أدخلها المديانيون إلى حياتهم، وكانت الذبيحة هنا إشارة لهدم كل رابطة تربطهم بالوثنية السوداء التي عاشوا فيها!!..
عندما دخلت الخطية حياة الشعب دخل الخراب، فقد استولى المديانيون على كل شيء، وكانوا أشبه بالجراد الذي يأكل كل شيء ولا يترك وراءه إلا أرضاً جرداء بدون ثمر أو طعام. ودخل الحزن، وكثرت الضحايا، وسقط الشباب كالأعواد الزاهرة الذاوية، وقتل ذبح وصلمناع سبعين رجلاً هم إخوة جدعون الأشقاء، ودخل الفزع ليصنع فعله القاسي في حياة الناس، إذ لم يعد هناك أمان أو اطمئنان. وعندما جاء الملاك كان جدعون يخبط حنطته في خوف ورعب ليهرب بها من المديانيين.. وكان على جدعون قبل أن يحتج أو يصنع شيئاً أن يقول ما قاله إرميا في مراثيه فيما بعد: "لماذا يشتكي الإنسان الحي الرجل من قصاص خطاياه لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب"..!!
جدعون والإيمان المسترد
كان العنصر الأساسي في حياة جدعون أن يتخلص من كل شك، وبعد أن يطهر نفسه والشعب يسترد إيمانه العظيم بالله، الإيمان الذي صنع العجائب العظيمة مع آبائه، ويمكن أن يصنعها أيضاً معه،.. وقبل الله ذبيحته الأولى، وقبل أن يعطيه البرهان في الجزة مرتين، مرة تمتليء بالطل والأرض جافة، والثانية عندما تجف والأرض كلها ممتلئة بالطل،.. وزاد الله بأن أسمعه حلم المدياني الذي تحدث عن رغيف الخبز من الشعير الذي قلب خيمته، والذي فسره الآخر بأنه سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل..
كان بسكال الفيلسوف معجباً إلى الحد الكبير بجدعون بن يوآش، وهو صاحب ذلك الخيال الطريف، والذي ذكر فيه أن أم جدعون أخذت جزة ابنها، وصنعت منها صديرياً يلبسه على صدره كل حين، ويذكره على الدوام بإيمانه بالله، كلما تعرض هذا الإيمان لهزة من الهزات، وسار جدعون بإيمانه ليدخل ركب التاريخ وصفوف الأبطال، ويكتب اسمه في الرسالة إلى العبرانيين قبل أن يعوز الوقت الكاتب الذي جعله يمر بالكثيرين دون أن يذكر أسماءهم وأفعالهم العظيمة!!..
كان الفرق بين إيمان جدعون الأول وإيمانه الثاني: إن الإيمان الأول كان إيماناً إخبارياً نقل إليه من الكثيرين عما فعل الرب مع آبائه وأجداده في القديم، أما الإيمان الثاني، فهو الإيمان الاختباري الذي فيه تلاقى مباشرة مع الله واختبره، وهناك فرق عظيم، بين مجرد السمع، وبين الاختبار الفعلي، وبين أثر هذا وذاك في حياة الناس، ويكفي أن نرى الفرق بين إيمان أهل سوخار بسبب ما قالت المرأة السامرية لهم، وإيمانهم المباشر بعد لقاء المسيح المبارك معهم: "فأمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي تشهد أنه قال لي كل ما فعلت، فلما جاء إليه السامريون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يومين فآمن به أكثر جداً بسبب كلامه وقالوا للمرأة إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم.
جدعون والمعركة الناجحة
ومع أن معركة جدعون كانت من أغرب المعارك التاريخية على وجه الأرض، إلا أنه يمكن أن نلاحظ عليها ما يلي:
استراتيچية القائد الأعلى
كان على الجنود أن يصرخوا "سيف للرب ولجدعون".. ولئن كان جدعون هو الأداة البشرية فإن الله هو القائد الأعلى، وهذا القائد لا يسير بمنطق الناس أو حكمتهم أو فهمهم البشري، بل إنه على العكس يقلب كل شيء ويجعله مضاداً للفكر البشري، والسر في ذلك كما قال هو: "لئلا يفتخر على إسرائيل قائلاً يدي خلصتني". ومن ثم فقد تقدم للحرب اثنان وثلاثون ألفاً، فوصل بهم الله إلى ثلاثمائة جندي، وحتى يقطع الطريق تماماً على كل ادعاء بشري، جرد الثلاثمائة جندي من كل سلاح يستخدم في المعارك ومن العجيب أن هذه استراتيچيته الثابتة في كل معارك الحياة، كلما أراد أن يصنع المعجزات، ويغير التاريخ، ويكفي أن نرى في كل العصور: "فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شرفاء بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، وأختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه".. وهو إلى جانب هذا يرفض الأسلحة البشرية التقليدية،.. هل قرأت ذلك الخيال الطريف الذي تصوره أحدهم، إن المسيح في عودته إلى السماء، استقبلته الملائكة، وقال لقد أتممت الرسالة وتركتها وديعة في يد الذين سينشرونها في الأرض؟؟.. وسأل الملائكة: هل هم فلاسفة الأرض، وقال المسيح: كلا.. هل هم أغنياء الأرض.. وأجاب: كلا.. هل هم مجموعة من الجيوش الزاحفة في الأرض.. وقال المسيح: إنهم جماعة من الصيادين الفقراء الذين لا يملكون شيئاً، وإنما يحملون اسمي معهم في كل مكان!!.. أن أنظار الأصدقاء والأعداء تتجه في معركة جدعون إلى الله وإلى الله وحده!!..
استراتيچية الجندي الناجح
عندما صرخ الجنود، كانت صرختهم: "سيف للرب ولجدعون" ومع أن جدعون يستوي والعدم بالنسبة للمعركة، لكن وجوده ووجود جنوده أمر أساسي وجوهري في النصر، وبكل إجلال واحترام لله، نقول: إنه لا يصنع شيئاً في الأرض إلا إذا استخدم الأداة البشرية، لكن السؤال يأتي: من هم الذين يستخدمهم الله؟؟.. إن الله هنا يهتم بالنوع أكثر من العدد، لقد أعاد من المعركة الخائفين الذين ليس لهم قوة الإيمان وجسارته، وأدخل البقية الأخرى في الامتحان عند شرب الماء فالذي جثا على ركبتيه للشرب كان في جانب، والذي ولغ بيده كما يلغ الكلب كان في جانب آخر، وكان العدد الأخير ثلاثمائة، هم الذي دخلوا المعركة، أما الآخرون فسرحوا، ويعتقد كثيرون أنهم سرحوا لأن الانبطاح على الوجه، كان عادة الذين تعودوا الانبطاح أمام البعل في العادة، وهؤلاء مرفوضون أي لأنهم كانوا في السهل، وأعداؤهم كانوا في أعلى الجبل ويسهل أن يهاجموهم وهم على هذا الوضع، ولا يجوز لإنسان أن يدخل المعركة، ثم ينبطح على وجهه، أو لأنهم يريدون أن يشربوا ملء بطونهم، وليس لهم حركة الآخرين، وتأهبهم، الذين يرون فقط ظمأهم وهم مثل آبائهم الذين خرجوا من مصر وأحقاؤهم مشدودة، والأحذية في أرجلهم، لأنهم على استعداد للحركة السريعة!!.. أياً كان الفكر، فمما لا شك فيه أن "النوع" في الثلاثمائة هو الأفضل والأنشط والأكثر استعداداً وتأهباً للقتال!!..
من طريف ما يذكر أن أحد رجال الله قال لزميله الذي سأله عن الأحوال وأجاب الآخر: رائعة إذ أن الكنيسة في نهضة عظيمة، لقد شطبنا من عضويتها خمسين عضواً،.. وكانت هذه حقاً نهضة عظيمة، إذ أن الله يسر بالنوع أكثر من الكم، والثلاثمائة بغيرتهم وحركتهم وجسارتهم أفضل من ثلاثين ألفا أو يزيد من الخائفين أو الكسلة، أو المترددين أو المنبطحين على وجوههم!!..
استراتيچية الوسيلة البارعة
باغت جدعون الأعداء عندما تثقل نومهم في أول الهزيع الأوسط الذي يبدأ حسب النظام اليهودي من الساعة العاشرة إلى الثانية صباحاً، وطوقهم من ثلاث جهات، وهم يستيقظون على فرقعة الجرار المكسورة والأنوار المرتفعة، والأبواق الضاربة، فلا يعتقدون أن المهاجمين هم ثلاثمائة جندي بغير سلاح، بل هم جيوش جرارة تطوقهم من ثلاث جهات، وفي الفزع والرعب لا يعرف العدو من الصديق، وإذا بهم كل واحد يقتل جاره، لم يقاتل جدعون أجساد أعدائه، بل قاتل أذهانهم، وساعد بعضهم على إهلاك بعض!! وفي المعارك الروحية، نحن لسنا إلا جراراً فارغة يستخدمها الله أفضل استخدام، رغم تصدعها وضعفها، ولا قدرة لنا إلا أن نرفع أمام العالم الغارق في الظلام مشاعل النور والحق والخير والسلام،.. وليس لنا من سلاح إلا كلمة الله نبوق بها للناس، فإذا بعالم الخطية والفساد والشر يسقط تحت أقدامنا أسرع من البرق!!..
ترى هل نستطيع أن نستعيد الوسيلة القديمة البارعة، فلا نرى نفوسنا في معارك الحياة، سوى جرار فارغة تحمل مشعل النور العظيم للعالم، وبوق الكلمة الإلهية كصوت صارخ في البرية؟!!
جدعون والتجربة الزاحفة
وهذا آخر ما تنتهي به في قصة الرجل، لقد واجهته التجربة في قمة انتصاره فرفضها عندما طلب منه أن يكون ملكاً على الشعب، زمجرت التجربة في وجهه، ولكنه أبى أن يأخذ مكان الله وقال: "لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني، الرب يتسلط عليكم".. وتركه الشيطان إلى حين، ليداوره مرة أخرى، ولكن بأسلوب آخر لا كملك بل ككاهن، فصنع أفوداً وابتعد عن شيلوه، وكان ذلك فخاً له ولبيته ولشعب الله،.. إن جدعون يذكرنا على الدوام، بأنه لا يوجد فينا إنسان محصن ضد التجربة وأنه في الصغر والصبا والشباب والشيخوخة، نحن في حاجة إلى أن نصرخ: "اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري وانظر إن كان في طريق باطل واهدني طريقاً أبدياً"..
هل صرخ جدعون هذه الصرخة أو مثلها؟؟.. وهل تاب عنها؟؟.. نحن نشكر الله الذي لم يحرمنا من الرجاء فيه أو في شمشون من بعده، عندما نقرأ الكلمات الإلهية ونراه من أبطال الإيمان في الرسالة إلى العبرانيين القائلة: "وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشمون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء!!..".. شكراً لأجل النعمة التي أنقذت جدعون.. وأنقذت شمشون أيضاً!!..