اسكندر النحاس
( اسكندر النحاس أظهر لى شروراً كثيرة ليجازه الرب حسب أعماله )
(2 تى 4 : 14 )
مقدمة
قال أحدهم إن الفارق بين بولس والمسيح ، هو الفارق بين الأسد المزمجر والحمل الوديع ، كلاهما لُطم على الخد ، وكلاهما حدث له هذا اللطم أمام رئيس الكهنة ، فتقبل المسيح اللطم بالوداعة المذهلة وهو يقول للخادم : « إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردى وإن حسناً فلماذا تضربنى » ( يو 18 : 23 ) .. وقال بولس فى زمجرة الأسد لرئيس الكهنة الآمر بضربه : « سيضربك اللّه أيها الحائط المبيض . أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس ، وأنت تأمر بضربى مخالفاً للناموس» (أع 23 : 3). ولم يلبث أن اعتذر عندما علم أنه رئيس الكهنة وهو يقول : « لم أكن أعرف أيها الأخوة أنه رئيس كهنة لأنه مكتوب رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً » ( أع 23 : 5 ) .. وقد كان بولس دائماً قريباً من روح المسيح ومثاله وقلبه ، وهو القائل : « كونوا متمثلين بى كما أنا أيضاً بالمسيح » ( 1 كو 11 : 1 ) ، فإذا كان السيد قد قال فوق الصليب عن قاتليه : « اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون » ( لو 23 : 34 ) فإن بولس قال أيضاً لسجان فيلبى الذى كان مزمعاً أن يقتل نفسه : « لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأن جميعنا ههنا » ( أع 16 : 28 ) .. لكن السؤال مع ذلك يبقى : وما العمل مع الإنسان الذى لم تفلح معه كل طرق المحبة والتسامح ، بل زادته شراً على شر ؟ إن الجواب واحد على الدوام بالنسبة للمسيح ، ولبولس ، ولنا فى كل العصور والأجيال ، وهو أن نسلم الأمر كله بين يدى اللّه أو كما قال الرسول بطرس عن السيد « بل كان يسلم لمن يقضى بعدل » ، ( 1 بط 2 : 23 ) وكما قال بولس ههنا : « ليجازه الرب حسب أعماله » ( 2 تى 4 : 14 ) . مع الحكمة والحذر فى التعامل مع الأشرار ، ... إن قصة اسكندر النحاس جديرة بأن تكون موضوع الدرس والتأمل ، ولعلنا نتابعها فيما يلى :
اسكندر النحاس وشروره
لعلنا نستطيع أن نفهم هذه الشرور متى حددنا من هو اسكندر النحاس هذا ، وقد اختلفت الآراء حوله ، فهناك من يعتقد أنه ذلك اليهودى الذى كان يتصدر اليهود المضادين لبولس فى أفسس : «وكان البعض يصرخون بشئ والبعض بشئ آخر لأن المحفل كان مضطرباً وأكثرهم لا يدرون لأى شئ كانوا قد اجتمعوا . فاجتذبوا اسكندر من الجمع . وكان اليهود يدفعونه . فأشار إسكندر بيده يريد أن يحتج للشعب . فلما عرفوا أنه يهودى صار صوت واحد من الجميع صارخين نحو مدة ساعتين عظيمة هى أرطميس الأفسسيين » ( أع 19 : 32 - 34 ) ... وهناك من يرجح أنه يهودى آمن بالمسيحية ثم ارتد عن الإيمان وهو الذى تحدث عنه بولس فى الرسالة الأولى إلى تيموثاوس عندما قال : « ولك إيمان وضمير صالح الذى إذ رفضه قوم انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان أيضاً الذين منهم هيمينايس والإسكندر اللذان أسلمتهما للشيطان لكى يؤدبا حتى لا يجدفا » ( 1 تى 1 : 19 ، 20 ) .. على أن هناك من يأخذ برأى ثالث فيقول إن اسكندر النحاس، وقد أضيفت إليه صناعته ولقبه ، كان شخصاً آخر ، وقد لقب بلقبه تمييزاً له عن الشخصين المشار إليهما ، ... على أنه مهما يكن الاختلاف ، فإن الصورة التى وضعها الرسول، تكشف عن أهم ثلاثة أسباب يكمن دائماً خلفها الشر الكبير ، ومرات كثيرة ما يكون هذا الشر بلا أمل ، أو علاج ... فإذا كان اسكندر يهودياً حسب الصورة الأولى ، وقد دفعه القوم ليكون مقداماً لهم فى الهجوم على بولس ، ومع ذلك فلكونه يهودياً ، لم يستطع أن يتكلم من الصراخ الذى استمر لمدة ساعتين دون توقف ، وبكيفية لا يسمع معها أى شئ على الإطلاق ، .. وكل ذلك بسبب التعصب ، وقد تحدثنا فى أكثر من مناسبة عن التعصب الأعمى الذى لا يريد أن يرى أو يسمع أو يصغى على الإطلاق ، وقد وصفه يوحنا بنيان أروع وصف ، فالنفس البشرية كالقلعة المسورة التى يريد عمانوئيل اقتحامها ، وللقلعة خمسة أبواب هى الحواس الخمس باب الأذن ، وباب العين وباب الفم ، وباب اللمس ، وباب الشم ، وقد حصنها إبليس ، وعند باب الأذن أوقف ستين جباراً من الصم يصدون الأذن عن كل نداء ، ... وقد يكون التعصب عن طريق العين ، فالأبيض لا يريد أن يرى الزنجى ، والغنى لا يريد أن يرى الفقير ، والعالم لا يريد أن يرى الجاهل ، ... وقد قص دكتور ماكراكن قصة عن سيدة اسكتلندية اسمها مسز ماكدوف كانت تكره كل عمل يأتيه راعى كنيستها فإذا أطال العظة ، قالت : عظة مملة ، وإذا اختصر قالت مخلة ، إذا لم يزر قالت إنه منطو ، وإذا زار قالت إنه يعمل على جذب النفس إليه لا إلى المسيح ، كان كل عمل يعمله يواجه منها بعدم رضا ، وقرر الراعى أن يزور جميع أعضاء كنيسته الصغيرة ، وفعلا قام بالزيارة حتى وصل بالقرب من منزل مسز ماكدوف ، وأبصر ستارة النافذة تتحرك فعلم أنها كانت تراقبه ، ولما وصل إلى بيتها تردد هل يطرق بابها ، ولكنه أخيراً فعل ، طرق مرة ومرتين وثلاث مرات دون إجابة ، ... وأخيرا ركع أمام الباب ووضع عينه فى ثقب المفتاح فأبصر مسز ماكدوف تفعل نظيره من الناحية الأخرى ، فهتف يامسز ماكدوف هذه هى المرة الأولى التى نظر الواحد منا فى عين الآخر ... وفى كل مكان فى الأرض نجد أثار التعصب ، ألم يكن سسل رودس يعتقد أن أعظم شعب فى العالم هو الشعب البريطانى ؟ ألم يطلق اليابانيون على أنفسهم أبناء االشمس وأبناء السماء ؟ ، ألم يوجد الأمريكى الذى اعتقد أن اللّه لم يخلق مخلوقاً أفضل من الأمريكى ، وقد بدأ اللّه فخلق الغوريلا ، فالشمبانزى ، فالمكسيكى ، فالهندى الأحمر ، فاليابانى ، فالألمانى ، فالاسكتلندى ، فالانجليزى ، ثم جاء اليوم المجيد الذى خلق فيه الأمريكى !! .. فى الحقيقة إن فى العالم جدراناً كثيرة للتعصب ينبغى أن تزال ، وبدلا من أن نقيم جداراً بيننا وبين جيراننا ، من الأفضل أن نقيم طريقاً ، ... وكل واحد فى الأرض هو أخى الذى احتاج إليه ، ويحتاج إلىَّ ، فمثلا جندى أمريكى جريح فى الشرق الأقصى مدين بحياته لعالم يابانى هو كيستاسانو مكتشف جرثومة التيتانوس ، وجندى روسى نقل له دم جديد والفضل لرجل نمساوى هو لاندستانير ، وجندى ألمانى تحصن ضد التيفود بمعرفة روسى هو متشنيكوف، وبارجة هولندية نجت من الملاريا والفضل لجراسى الإيطالى ، وطيار إنجليزى فى شمال أفريقيا نجا من فساد جرح عملية بفضل فرنسى هو باستير وألمانى هو كوخ ، .. وفى السلم نجا أولادنا من الدفتريا بفضل يابانى وألمانى ، ومن الجدرى بفضل إنجليزى وهكذا ... إن المتعصب الأعمى وحش غير قابل للترويض ، ... وإذا كان أحدهم قد تخيل أن الحيوانات والوحوش اجتمعت معاً لتبحث مشروع الحصول على أمانهم فى المستقبل ، إذ بالفيل يقول : إن كل شئ يكون حسناً إذا تخلص الجميع من كل أسلحة الدفاع والهجوم ، ولم يبقوا إلا الأسنان ، أما النمر فلم يقبل هذا الاقتراح وقال إنه مستعد أن يستغنى عن كل سلاح ماعدا المخالب ، وكان اقتراح الذئب الاستغناء عن كل سلاح ماعدا الأنياب ، .. وكان غضب الدب عظيماً لأنهم لم يوافقوا على إنهاء مشاكلهم بحضنة واحدة كبيرة !! ..
على أنه من المحتمل عند البعض أن يكون إسكندر النحاس هو الإسكندر المرتد عن الإيمان ، والذى أسلمه الرسول للشيطان للتأديب ، حتى لا يجدف ، والمقصود بتسليمه هنا حسب رأى الشراح هو أن اسكندر انضم إلى الكنيسة ، وربما كان متحمساً فى البداءة ، ويقال أنه كان خطيباً مفوها ، ولا يمكن أن يقاوم بولس وأقواله سوى الخطيب المفوه ، وربما كان له مصالح وأغراض لم يمكنه بولس منها ، فخبا حماسه ، وتحول عدواً لدوداً لبولس يحاربه كمرتد ، وإذ رأى بولس ذلك حكم بقطعه من الكنيسة ، فطرد منها ، وازداد غيظه ورغبته فى الانتقام من بولس ، وفعل ما يفعله المرتدون الذين يملأ الشيطان قلوبهم وأفكارهم ، فيعيشون على شئ واحد يصبح رغبة حياتهم الكبرى ، هو هدم الإيمان الذى أمسكوا به مرة سابقة فى حياتهم ، وفى العادة يكون المرتد عن دين ، من أكثر الناس حرصاً على تدمير الدين الذى ارتد عنه ، وهى ظاهرة نفسية جديرة بالتأمل والالتفات ، .. والمعتقد أن المرتد ، وإن تظاهر بحماسه للدين أو المعتقد الذى تحول إليه ، إلا أنه فى الحقيقة يغطى صراعاً نفسياً رهيباً داخلياً يحاول التخلص منه بالإمعان فى الثورة واضطهاد الدين الذى تخلى عنه ، والمرتد الذى تخلى عن معتقده سعياً وراء أغراض دنيوية، أو بهيمية أو اجتماعية منحطة ، لا يرغب أن يعيش فى صراع مع وجدانه وضميره كان لحظة بسبب هذا الانحطاط ، وهو يتلمس لذلك تغطية هذه جميعاً برفس المناخس ، وإلا دعاء بأنه ذهب إلى الاتجاه الآخر من أجل أمور سامية وشريفة ، وهو لا يقبل أن يرى أمام عينيه ما يذكره بالتحول الذى طرأ عليه ، ولذلك فهو يمعن كل الإمعان فى التخلص من الدين أو المعتقد الذى عاش فيه فترة من الزمن !! .. ومن الملاحظ أن بولس أسلم هيمينايس والاسكندر للشيطان بالطرد من الكنيسة وحرمانها من الامتيازات الكنسية ، وقد يتعرضان بسبب تجديفهما إلى الضربات الإلهية ، ومثل ذلك قد يكون رادعاً للبعض ، أو قد يزيد المرتد اصراراً على ارتداده !! ..
على أن الرأى الثالث هو أن مشكلة إسكندر النحاس العويصة كانت المشكلة المالية ، إذ كانت تتملكه محبة المال ، « ومحبة المال أصل لكل الشرور الذى إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم باوجاع كثيرة » ، ( 1 تى : 10 ) كان الرجل يكسب من صناعة التماثيل النحاسية والأصنام التى كان يعملها ، وهو كديمتريوس الصنائع ، استعرض صناعتها كلها للبوار تضيع كل مكاسبه نتيجة تبشير بولس وتعليمه !! .. كان فى إحدى المدن أخوان يتاجران فى بيع الفحم بالقطاعى ، وحدث أن مبشراً مشهوراً زار المدينة ، وعلى أثر عظائه تجدد الأخ الأكبر ، وقد حاول جهده أن يقنع أخاه بالانضمام إلى الكنيسة ، وفى أحد الأيام قال له لماذا لا تستطيع أن تكون رجلاً صالحاً وتنضم إلى الكنيسة كما فعلت أنا !! ؟ . وأجاب الأخ الآخر : حسن أن تكون أنت عضواً فى الكنيسة ، أما إذا انضممت أنا إلى الكنيسة فمن الذى يقوم بوزن الفحم ؟!! ... كان من الصعب جداً على رجل كاإسكندر النحاس أن يتحول عن التجارة المحرمة ، ويبحث عن أشغال أخرى فى النحاس يمكن أن تعطيه المكسب الحلال ... قيل إن شاباً مسيحياً اسمه اسكار جامون كان يدير مخزناً للأطعمة ، وآمن بالمسيح وتجدد فأرسل إلى عملائه يقول : سيدى أرسل لكم هذا الكتاب ، لأذكر لكم أنى منذ تجددت فى أكتوبر الماضى كما تعلمون ، أحسست أنى يجب أن أغير سلوكى ، وقد بدأت بإبطال عادة التدخين ، على أنى بعد ذلك أحسست أنه إذا كان لا يجوز لى أن أدخن ، فلا يجوز لى أن أبيع التبغ ، قامت فى داخلى حرب، الحكمة الأرضية تنادينى أن بيع التبغ مصدر كسب لى ، لكن حكمة اللّه هتفت بى أنى أسلك فى طريق الحماقة ، وحاولت أن أبرر نفسى ، ولكن حكمة اللّه انتصرت ، وقررت أنه ابتداء من 15 أغسطس سنة 1958 سأكف عن تجارة التبغ ، على أنى سأحاول أن أقدم لعملائى أحسن ما يقدم من أصناف البقالة واللحوم . فى حدود طاقتى بالطبع ، مع قبول احترامى !! .. ومن العجيب أن مستر جامون ذكر بأنه لم يخسر عميلا واحداً ، وقد جاء الجميع يطلبون حاجتهم من متجره ، وقد امتدحوه لأمانته وشجاعته ، بل إن مثاله حفز البعض على الامتناع عن التدخين اقتداء به .. قال أحد الرعاة : إن غريباً حضر إلى كنيسته وكان فى ختام كل ترنيمة وفى أثناء العظة يهتف بكلمة « آمين » بكيفية تجلجل المكان ، وسأل الراعى نفسه : ترى هل هذا الرجل صادق ومخلص فى صوته المرتفع أم هى حركة تمثيلية ، وظل شكه مدة إلى أن جاءه فى احدى الليالى مظهرا اهتماماً كبيراً بالنفوس التى مات المسيح لأجلها ، ووضع فى يد الراعى مائتى دولار لمساعدة الكنيسة فى هذا العمل !! .. إن المال محك كبير وامتحان قاس ما أكثر ما سقط فيه الكثيرون !! .. وقد يكون السبب الذى قرر من أجله اسكندر النحاس تدمير عمل بولس ، أنه لا يستطيع ترك الربح الحرام ، وهى معركة حياة أو موت بينه وبين الرسول العتيد !! ..
اسكندر النحاس ومقاومته لبولس
يقول الرسول بولس : « اسكندر النحاس أظهر لى شروراً كثيرة » ... ولا يستطيع المرء أن يقرأ هذه الكلمات دون أن يمتلئ حزناً وأسى ، لأن الكلمات الأخيرة لبولس شملت أسماء عديدة ، لم يكن أصحابها يعلمون على الإطلاق أن التاريخ سيكشف حياتهم بما فيها من خير أو شر لكل الأجيال والعصور ، وقد وجد بين هذه الأسماء ألمع الشخصيات التى تميزت بالشجاعة والوفاء والأمانة والنبل، وسجلات حياتها ناصعة البياض مثل لوقا وتيخيكس وفرسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس ، ووجد على العكس من بدأ حسناً وانتهى شيئاً كديماس ، ... ووجد من سقط وكبا ، ولكنه لم يلبث أن نهض على قدميه مثل مرقس ، .. على أنه لا يوجد بين هذه الأسماء جميعاً من ضارع اسكندر النحاس فى الشر الذى وصل إليه ، ... ومن أوصاف بولس له ، يخيل إلينا أننا أمام شخصية شيطانية من هامة الرأس إلى أخمص القدم ، .. وقد ينكر البعض الحلول الشيطانية، وأثر الشيطان فى حياة الناس ، ولكن الكتاب يحدثنا لا عن هذه الحلول فحسب ، بل عن درجاته المفاوتة فى الشدة والعنف ، فهناك من أمسك به شيطان واحد ، وهناك من أمسكت بها سبعة شياطين ، وهناك من استولى عليه لجئون أو « أورطة » بأكملها ، ولا أعرف كم عدد الشياطين التى دخلت اسكندر النحاس ، ولكننا نتبين من مرارة الرسول وتحذيره لتيموثاوس مدى الشناعة التى يمكن أن يصل إليها الإنسان عندما يخضع لسلطان الشيطان ، وقد كان اسكندر النحاس مثلا بارزاً لها ، ... يقول الرسول عنه : « لأنه قاوم أقوالنا جداً » فأية أقوال هذه وعلى وجه الخصوص لأنها أقوال بولس وصحبه ، فهل يعنى هذا أن الرجل جند نفسه لمحاربة خدمة الرسول وصحبه وأنه فعل مالا يفعله إلا الشياطين أنفسهم فى الهزء والسخرية والكذب والتجديف على الحق الإلهى ، وعلى كلمة اللّه ، بأسلوب جنونى يصعب فهمه وتفسيره ، وهل كانت هذه المقاومة فى أفسس ، أم امتدت إلى أماكن أخرى ، فكما يجند اللّه أبطاله فى الخدمة ، يفعل الشيطان هكذا من خلال جنوده الأشرار القساة الغلاظ القلوب الذين وصفهم الحكيم سليمان فى أكثر من موضع فى سفر الأمثال : « التاركين سبل الاستقامة للسلوك فى مسالك الظلمة. الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر ، الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون فى سبلهم» (أم 2 : 13 - 15 ) .. « لأنهم لا ينامون إن لم يفعلوا سوءاً وينزع نومهم إن لم يسقطوا أحداً (أم 4 : 16)... «قلب ينشئ أفكاراً رديئة أرجل سريعة الجريان إلى السوء » ( أم 6 : 18 ).. «أما الأشرار فيمتلئون سوءاً ( أم 12 : 21 ) ومن المعتقد عند بعض الشراح أن اسكندر النحاس كان فصيحاً بليغاً ذرب اللسان مفوه التعبير ، وقد استخدم كل بيانه وفصاحته ضد رسالة الإنجيل ، ... ومن المتصور عند البعض أنه لم يكتف بهذا ، بل تحول فى خصومته العارمة لبولس إلى درجة أنه سافر من أفسس إلى روما ، .. وأنه ذهب إلى هناك ليشهد ضده فى المحاكم بغية القضاء عليه بأية صورة أو وسيلة ، .. وفى الحقيقة أن الشر عندما يتمكن من أحد ، يحوله وحشاً ضارياً يسلك كل سبيل للقضاء على الآخرين دون أدنى تعفف أو تورع أو خشية وتهيب ، ... جاء فى صحيفة أمريكية وصفاً لأحدهم : « إن خلقه يبدو محترماً طالما ظل غير مكشوف ، مع أنه فى حقيقته مستبدع طماع مغرور فى نفسه ، لا يملك أية مهارة كجندى أو سياسى ، لقد زحف نحو الشهرة بسبب وظيفته ، وسياسته المالية أفقرت الشعب كله ليغتنى القليلون ، وسيمزق التاريخ جميع الصفات التى كتبت مدحاً له!! هل يصدق أحد أن هذه الكلمات جاءت وصفا لواشنطون بطل الأمة وقائد استقلالها ... وهل يصدق أحد أن جونسون دعى خائناً ، ولنكولن قرداً وولسن داعية الإنجليز فى البيت الأبيض ، وفرنكلين روزفلت عنده جنون مطبق !! .. ومن الثابت أن بولس أحس الأضرار البالغة التى جلبتها مقاومة اسكندر النحاس لعمل اللّه ، وهل لا تضار الحنطة إذا وضع الزوان فى وسطها ، ... وهل يستطيع الجيش التقدم بالسرعة الكافية للأمام والأرض كلها فى طريقه حقول ألغام ، ... وهل يمكن أن ينتشر عمل اللّه فى كل البقاع وجنود الشر تعيقه عن التقدم والحركة من كل جانب ، ... لذلك لم يجد الرسول بدا من أن يحذر تيموثاوس من الرجل وشره وأضاليله وسمومه ، إذ الواضح كما لاحظ بعض ثقاة المفسرين ، أن الرجل وإن كان يكره بولس كراهية مخيفة مفزعة ، إلا أنه كان أكثر كراهيةً لأقوال بولس ورسالته ، وهو لا يريد تدمير بولس كشخص ، بقدر ما يريد تدمير الرسالة التى يحمل بولس لواءها ، ولذا فإن عداءه سيتجه حتماً إلى تيموثاوس أيضاً ، وأنه كما فعل مع بولس ، سيفعل مع الرجل الذى حل محله فى أفسس ، وهذا هو فى الحقيقة لب الداء وأصله وعمقه ، .. إن الذين يقاوموننا بسبب «أقوالنا»، لا تنصب خصومتهم بالدرجة الأولى على أشخاصنا ، حتى ولو بدا منظرنا مكروها لا تستطيع عيونهم أن تتقبله وتراه ، ... إنها تنصب فى الواقع على العقيدة والإيمان المسيحى الذى نتمسك به ، ولعل أكبر دليل على ذلك هو التحول من النقيض إلى النقيض لمن يتحول إلى معسكرهم ويمشى فى ركابهم ، ويساير آراءهم وأفكارهم ومعتقداتهم، عندئذ يصبح مكروه الأمس محبوب اليوم ، وعدو الماضى صديق الحاضر ، وهى المأساة الرهيبة بين بنى الإنسان ، عندما يتناحر الناس ويتصارعون ويتقاتلون بسبب الخلاف على العقيدة أو التحول فى الأفكار والمذاهب والمعتقدات. لم يكن الصراع بين اسكندر النحاس وبولس مجرد صراع بين شخصين، أو اختلاف مميت بين فردين ، .. بل هو فى واقع الحال الخلاف الأكبر ، والمقاومة العظمى بين من يمثلهما هذان الشخصان ، بين المسيح الذى ينادى به بولس ، والشيطان الذى يتخفى وراء اسكندر النحاس ، ... ومن المناسب أن نلاحظ أن معنى كلمة « ابليس » : « المجرب أو المشتكى أو المخادع أو القاذف » ... ومعنى كلمة « شيطان : « المضاد أو المخاصم أو المقاوم أو الكامن» ... وعندئذ نستطيع أن نرى أن كل تجربة أو شكوى أو خداع أو قذف ، أو مضادة أو خصومة أو مقاومة ظاهرة أو كامنة من اسكندر النحاس لبولس ، هى فى الحقيقة من الشيطان ضد المسيح ورسالته وأقواله التى كان يحملها بولس ويقوم بها !! .. ومن ثم كان خليقاً ببولس أن ينبه تيموثاوس ويحذره من أن شرور اسكندر النحاس والتى لا تنتهى ، لابد ستلاحقه هو أيضاً ، وأنه ينبغى أن يلاحظه بعين مفتوحة ، ولا يخدع بقول معسول ، أو يفزع من تهمة كاذبة ، أو يتصور أنه قد يرتدع أو يتعفف عن تكرار أعماله وشروره !! .. إن الجندى المسيحى اليقظ عليه أن يعلم أن الشيطان عندما أفلس فى تجاربه مع المسيح ، فارقه إلى حين !! ... فإذا اختفى لحظة، فإنما ليعود أقسى وأنكى وأشد !
اسكندر النحاس وجزاؤه
يقول الرسول بولس عن الرجل : « ليجازه الرب حسب أعماله » وهى عبارة أثارت الكثير من الجدل والنقاش !! .. كيف يجوز للرسول أن يقول مثل هذا القول ، وأية عاطفة كانت تسيطر عليه وقتئذ ، ... وهل يجوز للمسيحى أن يطلب نقمة اللّه على الأشرار أو الأعداء !! .. فى الكثير من الترجمات ترد ترجمة النص بالصورة الآتية : « سيجازيه الرب » فالفعل عندهم منصرف إلى المستقبل ، وقد أخذ الكثيرون من الأباء بهذه الترجمة ، ويتفق معهم الكثيرون من الشراح ، وهم يقولون إن بولس لم تسيطر عليه عاطفة الغضب بقدر ما سيطرت عليه عاطفة الحزن ، وهو لا يحمل فى قلبه شيئاً شخصياً ضد الرجل ، ... وهو الإنسان المقدس الذى تعمق فى الشركة مع اللّه ، ويعلو على الحقد والكراهية والضغينة والانتقام ، ولا يمكن أن تسيطر عليه عاطفة التشفى أو الثأر أو الشماتة التى تجتاح الكثيرين ممن عذبهم الآخرون عذاباً جسمانياً أو نفسياً أو روحياً،... وإن الرجل الذى كان يقطر دماً ، ويئن من جراحه فى سجن فيلبى ، ومع ذلك يقول للسجان الذى عامله أقسى معاملة ، وهو يهم بقتل نفسه « لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً » ، .. مثل هذا الإنسان لا يمكن أن تسيطر عليه العاطفة التى تجعله يكتب آخر كلمات له على الأرض ، وهو يحمل ضغينة شخصية فى قلبه ، لأى مخلوق كيفما كان ومهما فعل !! ... لكن بولس وهو يعلم - على ما يذهب إليه هؤلاء المفكرون - أن اسكندر النحاس مازال فى شره ، وسيتوقع منه الكثير - ضد تيموثاوس وعمل اللّه فى أفسس ، وهو يحذر تلميذه من خطر هذا الأفعوان أراد أن يشجع التلميذ أكثر من أن يصب شخصه على الباغى ، فأكد له بروح النبوة أن جزاءه العتيد لابد أن يتم ، وأنه لا مهرب من هذا الجزاء ، ... فإذا كان الشرير يتمادى فى شره ، وأنه كلما عومل معاملة أرق وأجمل ، كلما ازداد وحشية وشراسة ، فإن الحقيقة المؤكدة هى أن عدالة اللّه الساهرة ، هى له بالمرصاد ، وستوقع به إن آجلا أو عاجلاً ، ... وأن عمل اللّه لا ينبغى أن يتوقف أو يتراجع ، مهما بغى الباغون ، أو اشتط المضطهدون : « لأن فوق العالى عالياً يلاحظ، والأعلى فوقهما » ( جا 5 : 8 ) .. فالكلمات عند هذا الفريق من المفسرين هى كلمات نبوية، ... على أن هناك من يقول إنه وإن كان لهذا الرأى قوته وسنده من المفسرين المتعمقين ، إلا أننا لا يجوز أن نجرد الرسول من إحساسه بالغضب ، خصوصاً وأن هذا الغضب ليس به أدنى ذرة من مشاعر أنانية شخصية ، بل هو الغضب المقدس الممتلئ بالحزن والذى وصف به المسيح فى القول : « فنظر حوله إليهم بغضب حزيناً على غلاطة قلوبهم » ( مر 3 : 5 ) .. وهو الغضب الذى استولى عليه عندما طهر الهيكل ، بسوط من حبال ، .. وهو الغضب الذى يستند بنا عندما نرى بشاعة ما يفعل الأشرار ، وهم يحملون معاول الهدم ضد عمل اللّه العظيم فى الأرض !! .. كان بولس فى ذلك الوقت تحت تأثير هذا الغضب المتقد الحزين وهو يقول: «ليجازه الرب» ... وهو نفس الغضب الذى استولى على المرنم فى قوله : « ألا أبغض مبغضيك يارب وأمقت مقاوميك ؟ بغضاً تاماً أبغضتهم . صاروا لى أعداء » ( مز 139 : 21 ، 22 ) فإذا قال بولس بعد ذلك « ليجازه الرب » فهو يؤكد لتيموثاوس أن المؤمن لا يجوز له بتاتاً أن يرد أو يقاوم الشر بالشر ، ولكن عليه أن يسلم لمن يقضى بعدل !! ..
إن مأساة اسكندر النحاس فى الواقع هى مأساة كل شرير فى الأرض ، لا يعلم أن الشر كالخير كلاهما سيجد جزاءه فى الأرض ، وفى الأبدية أيضاً ، ولم يكن الرجل يعلم قط أن شروره الكثيرة ستتحول عاراً أبدياً يلحقه فى كل العصور ، ويكون جزاؤه الأبدى فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت : « لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً !! .. ( رؤ 22