مقدمة
قصة تارح قصة الرجل الذي توقف في منتصف الطريق قبل أن يصل إلى كنعان، قصة الرجل الذي سجل عنه الوحي: "ومات تارح في حاران".. وقد يسأل البعض: وأي شيء في هذا التعبير يمكن أن يثير أو يشير؟!! لقد مات الرجل شيخاً عن مائتين وخمس من السنين، فهو لم يذهب في قوة الصبا أو أوج الشباب حتى يمكن أن يتوقف الناس ليبكوا عوده الزاوي وشبابه الضائع في صبح الحياة؟!! وهو الرجل الذي خلف وراءه الأولاد إذ لم يمت عقيماً، بل ترك أولاداً على رأسهم إبراهيم الابن العظيم الخالد،.. قد يكون هذا صحيحاً وحقاً،.. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن الرجل مات في رحلة من أعظم رحلات الإنسان على الأرض،.. وقد خرجت القافلة الصغيرة من أور الكلدانيين، وعلى رأسها شيخ ورجل وشاب، وكان الشيخ تارح، والرجل إبراهيم، والشاب لوط، وسقط الشيخ في الطريق، وجرد الشاب من كل ما يملك، ولم يبق سوى الرجل الذي كان النموذج الأعظم الثاني في الرحلة الخالدة..
ومن المؤسف أن الشيخ الذي قطع أكثر من خمسمائة ميل في الرحلة حتى وصل إلى حاران، أو في لغة أخرى قطع أكثر من نصف الطريق، هذا الشيخ لم يلبث أن أصابه الملل والتعب والكلل والإعياء، فرفض أن يتقدم خطوة أخرى واحدة بعد هذا،.. ومات في حاران دون أن يدخل أرض الموعد،.. هذه مأساة الرجل القديم الذي خرج يبحث عن الله، أو بتعبير أصح، خرج مع ابنه الذي استجاب الدعوة السماوية وقطع شوطاً طويلاً في الطريق دون أن يتمم أو يبلغ نهايته،.. إنه يمثل الكثيرين من المسيحيين الذين أطلق عليهم مودي: "المسيحيين الحارانيين" الذين يبدءون الرحلة بالغيرة والحماس والقوة والنشاط، ولكنهم هم أبناء "تارح" الذي سقط في الأرض، وليس أبناء إبراهيم الذين وصلوا إلى نهاية المطاف إلى كنعان السماوية، إن قصة تارح تعطي تحذيراً أكيداً للسالكين في رحلة الحياة الأبدية إلى الله في المجد، ولذا يحسن أن نراها من النواحي التالية:
تارح وتجاربه
وما أكثر ما واجه تارح من تجارب،.. وربما كانت تجربته الأولى تجربة الإعجاب الوقتي،.. ولعلك تلاحظ عند المقارنة الدقيقة بين إبراهيم وتارح، أن الكتاب يقول: "ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو ما بين النهرين قبلما سكن في حاران".. وليس في لغة الكتاب ما يدل على أنه ظهر لتارح، وقد صنع هذا الفارق القصة المختلفة بين الأب وابنه،.. وسيتاح لنا عندما نقرأ في الشخصيات الكتابية شخصية إبراهيم، أن مفتاح حياته كان هذه الرؤية المجيدة، التي كانت بمثابة الجاذب المغناطيسي الذي حركه حيثما حل وذهب، وهل يستطيع الحديد المقترب من القطب المغناطيسي إلا أن يسير أسراً لهذه القوة المغناطيسية وفي نطاق دائرتها؟!!.. وهكذا كان إبراهيم في صداقته وعلاقته بالله، ولقد ضرب في الأرض، وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه سبى بشخص الله الذي ظهر وهو ما بين النهرين قبلما سكن ولسنا نعلم كيف واجه تارح الوثني هذا التغيير العجيب الذي طرأ على ابنه!!.. هل قاومه الأمر، عندما أدار إبراهيم ظهره لعبادة القمر، وغيرها من ديانات الوثنية؟!! قد يكون إذ ليس من السهل التصور أن أبينا يخرج على دين آبائه، ثم يستقبل الآباء هذا الخروج بالهدوء أو التصفيق والاستحسان!! وإذا كانت التقاليد تقول إن نمرود اضطهد إبراهيم اضطهاداً مريراً عندما تحول عن العبادة الوثنية، فليس من المستبعد أن تارح فعل الشيء نفسه تخوفاً أو مصانعه لأهله وعشيرته!!.. على أن إبراهيم وقد تمكنت الرؤية من نفسه ومشاعره –تحمل كل شيء كما يتحمل المؤمن الحديث الإيمان بفرح كل ما يمكن أن يفعله الأشرار في نفسه؟!!.. ولعله –وقد أضاءت حياته بهذا النور اللامع الجديد- قد استطاع أن يؤثر في أبيه ويثير إعجابه إلى أبعد الحدود!!.. ولعل أباه إعجاباً أو خوفاً على ابنه من الاضطهاد أبى أن يتركه وحده في رحلته، بل سار معه في ارض المجهول حتى جاءت القافلة إلى مدينة حاران. وهكذا ذهب تارح وإبراهيم ولوط في الطريق إلى الأرض الجديدة، والأب معجب كل الإعجاب بابنه العظيم.. والإعجاب في العادة يصلح أن يكون ابتداءً، لكنه لا يمكن أن يصمد في السير إلى النهاية، ما لم يكن مصحوباً بعوامل أخرى فعالة وعظيمة،.. وهو أشبه الكل بالزرع الساقط على الأرض الذي وصفه السيد المسيح بالقول: "والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر".. ولعل الرؤيا التي أبصرها إبراهيم –ولم يرها تارح- هي التي صنعت الفرق العظيم بين القلبين أو التربتين، فكان الأصل العميق في قلب إبراهيم، والسطحية المحجرة في قلب تارح،.. وكان الفارق بين من قطع الطريق إلى آخر الشوط، ومن تخلف في منتصفه دون أن يتم الرحلة إلى أرض الموعد!!.. كما أن التجربة الثانية أمام الرجل كانت ولا شك الإعياء، فهو شيخ يضرب في الفيافي والقفار، مئات الأميال، بعد أن ترك أهله وصحبه وبيته، والحياة التي درج عليها وعاشها سنوات متعددة طويلة، وهو إذا كان قد بدأ متحمساً غيوراً نشطاً، فمما لا شك فيه أن خمسمائة ميل خلفها وراءه أصابته بالإعياء البالغ الجسدي أو النفسي على حد سواء، ولم نعد نراه على الحماس القديم أو الغيرة السابقة،.. وهو صورة للكثيرين من المسيحيين الذين يدلفون صوب كنعان السماوية، وقد يقطعون أشواطاً متعددة من الرحلة، والهتاف يملأ قلوبهم، ونفوسهم، على أنهم شيئاً فشيئاً –والرحلة طويلة ممتدة قاسية فوق حصباء الحياة ورمال الزمن- نجد الكلال والتعب والتبرم والضيق يستولي عليهم، وعلى وجه الخصوص إذا أحاطت بهم التجارب، أو حفت بهم الآلام، أو ضاقوا بالحياة أو ضاقت الحياة بهم، وإذ بحاران أول مدينة يلقون فيها عصا الترحال دون رغبة في مواصلة السير، حتى ولو كانت هناك نهاية الحياة، وآخر المطاف،.. إنهم أحوج الكل إلى القول الإلهي: "بصبركم اقتنوا أنفسكم".. أو: "سمعتم صبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف".. أو: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح".. صور دانتي في الكوميديا الإلهية الذئب أشد ضراوة من النمر أو الأسد وذلك للفارق البعيد بين هجوم الاثنين على الفريسة المطاردة، إذ أن النمر أو الأسد ينقض على الفريسة من أول الحركة، وهو لا يسلم من صراعها، إذ تبدو في كامل قوتها، وتحاول أن ترد العدوان بكل ما تملك من جهد أو قوة!!، وعلى العكس من الذئب الذي يطارد فريسته أولاً، ثم ينقض عليها عندما يتملكها التعب والإعياء، وتكون أعجز عن أي مقاومة، وتصبح بذلك لقمة سهلة سائغة ميسورة!!.. وقد بدا هذا واضحاً وصحيحاً في الكثير من الصور الروحية التي جاءت في كلمة الله.. ألم يأتي عيسو ذات يوم من الحقل وهو قد أعيا وقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت، لذلك دعي اسمه أدوم فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو، ها أنا ماض إلى الموت فماذا في بكورية!!.. وباع عيسو أثمن ما يملك وهو معيي بطبق من عدس!!.. كان عماليق أخطر الأعداء على شعب الله، وذلك لأنه ترك الشعب حتى الإعياء، ثم انقض عليه، ومن ثم جاء الأمر الإلهي بمحو ذكره من تحت السماء، لأنه لم يرحم المتعب المجهد المعيي،..
ألم يسر إيليا في البرية مسيرة يوم، وإذ أخضه التعب الجسدي والروحي جلس تحت الرتمة، وطلب الموت لنفسه وقال كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيراً من آبائي،.. ورأى الله حاجة إيليا القصوى إلى الراحة فأنامه وأطعمه حتى تهدأ نفسه وتستريح، قبل أن يلتقي به أو يتحدث معه في جبل الله حوريب.
وكانت التجربة الثالثة أمام تارح تجربة الإغراء والعودة إلى الماضي القديم، إذ كانت حاران أقرب المدن جميعاً إلى أور الكلدانيين، فالمدينتان كانتا مركزين متماثلين لعبادة القمر، وكلتاهما كانت على درجة عالية من الحضارة والثروة والتجارة والصناعة، فإذا سكن تارح في حاران، فإنما يستعيد بذلك ما فاته أو ما ضاع منه في أور الكلدانيين، ولعل السؤال الملح الذي كان يطوف بذهنه، ويطارده ليلاً ونهاراً.. ألم يكن متعجلاً في الخروج من أور الكلدانيين؟!!.. وهل رأى ابنه حقاً الرؤيا الإلهية أم هي بعض الخيالات أو الأوهام أو الوساوس التي ألمت به، فظنها رؤيا الله البعيد الساكن السموات؟ مسكين الإنسان عندما يقع بين شقي الرحى، التعب من جانب، والإغراء من الجانب الآخر إنه مثل هرقل كما تصوره أساطير الإغريق، والذي كان عبداً لملكه، وأراد الملك أن يتخلص من قوته الخارقة، فكان يرسله إلى أخطر الرحلات، ويطلب منه أشق الأعمال، لعله يهلك، أو تأتيه الكارثة بأية صورة من الصور،.. وقد جلس هرقل ذات يوم يلتقط أنفاسه المتعبة، وإذا به يبصر فتاتين تقبلان عليه في الطريق، وتقول أولاهما: أي أيها البطل العظيم، لقد جئتك أدعوك إلى المسامرة، وأمد لك أسباب الحياة الحلوة الجميلة الفياضة المترعة بالملاهي والمتعة والملذات، إن سرت معي وصاحبتني الرحلة طول الطريق، ويسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فتقول: أنا اللذة، وإن كان أعدائي يطلقون عليَّ اسماً آخر هو الرذيلة".. وتتقدم الثانية لتقول: لا تصدقها يا هرقل، فهي مدعية وكاذبة، ولن أعدك أنا بما أدعت أو صورت، لكني أعدك بأن أسير معك الطريق المضني المتعب القاسي، وأن أزودك بالقوة والشجاعة الأمانة والصبر، فتحيا، وتصبح قصتك قصة عظيمة تتوارثها الأجيال، ويتحدث بها عابرو الطريق في كل جيل وعصر!!.. وسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فقالت: اسمي "الفضيلة"!!
قد تكون هذه أسطورة من أساطير الإغريق، ولكنها تنطق بما يواجه الإنسان في كل زمان ومكان،.. ورأى تارح وإبراهيم القصة بكاملها في أرض حاران، وسقط الأب، ونجا الابن،.. وعاد الأب على الأغلب لعبادة القمر، أو كان على أية صورة من الصور الإنسان الذي تقاعس في الطريق دون أن يتم رحلته إلى آخر الشوط،.. ولم يكن له من نصيب في موعد الله ما كان لابنه أبي المؤمنين في الأرض!!.. وقد أضاف بعضهم إلى القصة تجربة رابعة، هي تجربة الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع أن رحمة الله يمكن أن تنتقد الإنسان مهما طال عمره حتى إلى أخريات حياته لكن هناك فارقاً واضحاً بين إنسان كبلته الشيخوخة بالكثير من التقاليد والعادات والسير والماضي، وبين آخر لم تحكم حوله السنون شراكها بما يمكن أن يتركه أسيراً لا يفلت من شرها وخداعها!!.. ولعل هذا ما قصد الرسول يوحنا بعد آلاف من السنين أن يذكر به الأحداث في القول: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد".. وقف تارح في حاران شيخاً طاعناً في السن، ووقف معه إبراهيم إلى أن دفنه هناك!!..
تارح وخطاياه
أما وقد أدركنا هذه التجارب التي ألمت بتارح، فمن حقنا أن نعرف الخطايا التي أودت به إلى أسوأ مصير،.. ولعل أول خطية كانت البقاء في مكان التجربة،.. هل سمعت عن القديس الذي تاب عن الخمر، وصلحت حاله، وأصبح من أروع الأمثلة عن التعبد والشركة مع الله؟، لكنهم رأوه ذات يوم مخموراً ساقطاً في الطريق، وتعجبوا كيف يمكن للرجل الذي أصبح عيافاً أن يصل إلى هذه الحال،.. وتبينوا شيئاً عجيباً غريباً، أن الرجل وهو في سبيله إلى العبادة في الكنيسة تعود أن يربط حصانه على مقربة من الحانة القديمة التي كان يشرب فيها الخمر، فكان المكان القريب من الماضي الآثم مصيدته التعسة وهو لا يدري،.. من المؤكد أن يوسف لم يكن في قوة شمشمون الخارقة، ونجا يوسف من السقوط في الخطية لأنه ترك ثوبه وهرب، ونام شمشمون على حجر دليلة ليسقط الجبار كما يسقط الوعل في شبكة!!.. إن النصيحة التي سمعها لوط من الملاك كانت "اهرب لحياتك" وكان تارح في حاجة إلى هذه النصيحة أكثر من إبراهيم، ولكنه توقف في حاران لينتهي هناك!!..
وكانت خطية تارح الثانية خطية التأجيل، لست أعلم هل استحثه إبراهيم على السير قدماً إلى الأمام؟ وهل راوغه الأب يوماً وراء يوم حتى جاءت النهاية؟.. الذي أعلمه أنه لم يجعل حاران نقطة انتقال، بل مكان سكن، هل اقتنى بيتاً هناك، ورفض السكن في خيام؟، هل تلكأ لهذا السبب أو ذاك، ومنع ابنه سنة بعد أخرى عن الرحلة الخالدة؟!!.. إنه على أي حال التأجيل، وما يصاحب هذا التأجيل من أخطاء وبلية!!.. "اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر" لقد أوشك لوط أن يضيع في سدوم رغم إنذار الملاكين بسبب التأجيل في مواجهة الخطر الداهم وقيل: "ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: "اهرب لحياتك، لا تنظر ورائك ولا تقف في كل الدائرة اهرب إلى الجبل لئلا تهلك".. وهل تعلم أن شاول الطرسوسي كان في حاجة أيضاً غداة لقاء المسيح إلى نصيحة حنانيا الذي قال له: "والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب".. والخطية الثالثة كانت خطية الارتداد أو العودة إلى الدين القديم، كانت البلاد المحيطة بحاران تعبد آلهة مختلفة فبعضها كان يعبد الشمس أو غيرها من الكواكب، لكن حاران بالذات كانت تعبد القمر، مما شجع على التصور أنها طابت مكاناً ومقاماً لتارح، حيث عاد إلى العبادة الوثنية التي رفضها إبراهيم،.. هل نشأ النزاع بين الأب وابنه، وكانت سنوات حاران انقساماً فكرياً أو روحياً بين الاثنين؟!! أو هل جاهد إبراهيم طوال هذه الفترة أن يقنع أباه ببطلان القمر والشمس والنجوم كآلهة معبودة، لسنا ندري سوى أن الموت حسم النزاع، وذهب تارح بعيداً عن إله إبراهيم ومواعيده وأمجاده، وتجددت الدعوة لإبراهيم بعد موت أبيه أن يحمل عصا الترحال إلى أرض كنعان!! مهما يكن الذي حدث، فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يمثل الإيمان بكل شجاعته وقوته وصلابته، وكان أباً للمؤمنين وما يزال في كل العصور أو الأجيال. وكان تارح رمزاً للهزيمة والضياع والتراجع، وأبا للمرتدين الذين تذوقوا الحلاوة الأولى، ثم عافوا عنها، أو أضحت مراً لهم، إذ أفقدتهم الخطية الطعام والشهوة والمذاق الصحيح!!.
تارح ومأساته
وأية مأساة أقسى من هذه المأساة؟ وأي ضياع أرهب وأشد من هذا الضياع؟، أليس هو ذلك الرجل الذي كان من أقدم من وصفهم الرسول بطرس يوم قال: "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة"؟! أجل لقد ضاعت الخمسمائة ميل في طريق دون خير أو جدوى، فلا هو بالإنسان الذي استقر مع قومه دون أن يرحل عنهم وعن صحبتهم وعن الليالي السامرة التي لم يعد يجد مثيلها في الأرض الغريبة النائية،.. ولا هو الذي سار مع ابنه إلى الأرض العظيمة أرض الموعد، ليرى بركات الله وإحسانه ورحمته وجوده!!.. كان تارح من أقدم رجال التاريخ الذي عرجوا بين الفرقتين، وأدرك أنه لا يمكن الاستفادة من القديم أو الجديد على حد سواء!!.. وكان مثلاً بشعاً من أقدم الأمثلة التي تحكي مأساة الارتداد الديني المحزن عن شخص الله،.. وما من شك بأن إبراهيم ابنه –وقد دفنه هناك- وقف على قبره في آلم حالة وأقسى حزن، إذ لم يكن يود له هذا المصير، وودع هذا القبر بالعين الباكية وكأنما يردد بعد ألفي عام ما قاله المسيح لبنات أورشليم اللواتي خرجن وراءه في يوم الصليب نائحات باكيات: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن".. أو ما قاله الرسول بولس، عندما كتب رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، ويعتقد أنه كتبها من كورنثوس وكان يرى من بعض النوافذ هناك مقابر الوثنيين وقد حفر فوقها لغة اليأس والحزن في عبرات تعتبر ضياع الأمل، وانقضاء الرجاء!!.. ومن ثم كتب: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم".. أجل إنه شيء محزن أن نخسر الضياع أو المركز أو الشهرة أو الجاه أو أي متاع أرضي، لكن هذا كله لا يمكن أن يقارن بالخسارة الأبدية!!.. وحق للشاعر "دانتي" أن يكتب على باب الجحيم هذه العبارة: "أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!"..
كان تارح مأساة لنفسه، ومأساة قاسية لابنه الذي كانت ينتظر ولا شك أن يأخذ أباه معه إلى كنعان السماوية،.. ولكن الرجل تخلف وراءه في الطريق، وأضحى مأساة تحذر الآخرين أيضاً في كل جيل وعصر!!.. كان من أشد ما روع الكابتن سكوت في رحلته في القطب الجنوبي. وهو يسير أميالاً متعددة فوق الجليد المتكسر، أن أبصر ورفقاؤه المتعبون معه، شيئاً يلوح من بعيد،.. كان علماً أسود رفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وقد فقدوا الحياة دون أن يبلغوا الغرض المنشود!!... ومنذ آلاف السنين ارتفع علم أسود فوق قبر قديم في أرض حاران لرجل تعثر في الطريق، ومات هناك، وتركه ابنه بعيون دامعة وهو يضع رخامة محزنة فوق القبر ما تزال كلماتها باقية إلى اليوم: "ومات تارح في حاران"..