صرخ الطفل ذو العشرة أعوام ملتاعا متلفت الرأس نحو اليمن واليسار … أين لوحتي لقد وضعتها هنا … من سرق لوحتي . هرول خارجاً من قاعة العرض راكضا في الممر الطويل ، باحثا عن سارق لوحته فلم يجد أحدا . كان يصرخ في فراغ . جلس على حافة سلم قريب من باب الخروج ينتحب بحرقة ويبكي وحده .
عاد الى البيت مكسور الفؤاد متألم ، استقبلته أمه كعادتها كل يوم ولكن هذه المرة هالها مظهر الحزن والقهر البادي على محيّا ولدها ، أحاطته بذراعيها واحتضنته مربتة على ظهره بحنان ، ثم أبعدته عن صدرها قليلا سائلة إياه : ما بك اليوم … أراك حزينا ؟ فقال وما زالت الدموع تتسابق في الخروج من عينيه الحلوتين : ذهبتُ بلوحتي الى معرض مسابقة الرسم الذي ستقيمه مدرستي بعد أن قضيت شهرين أرسم بها ، وقد … وقد …سرقت.
مسحت الأم على شعر ابنها وضمت رأسه مرة ثانية الى صدرها وجففت دموعه وهي ترفع وجهه نحو عينيها قائلة له : ارسم الثانية . ما المشكلة ؟
فأجابها طفلها منتحبا :
- سيفتتح المعرض بعد 3 أيام ، هي غير كافية لأُكمل رسم لوحة مثل لوحتي التي ضاعت مني .
- وماذا رسمت فيها ؟
- رسمت فيها صليب يسوع وخلفه شمسا ساطعة وطيورا تحلق حوله وفراشات تحط على حافاته .
- حسنا … حسنا لا تبكي كفى . سأقول لك ارسم واحدة ثانية في يوم واحد وبسرعة وستفوز ، سترى … ارسمها من أجلي … من أجل ماما .
- حسنا سأرسمها من أجلك فقط ، لأنني لا أُصدق انه يمكن لي أن أفوز .
جلس الطفل أمام أوراقه البيضاء وأدوات رسمه الليل بطوله منكبا راسما لوحته الثانية الذي انتهى منها قبل أن يبزغ الفجر بقليل . وبدت لسرعة رسمها ولحزنه الشديد ، غير منضبطة الخطوط ، كئيبة ، فلم يكن بمقدوره سوى إعادة رسم الصليب فقط ، الذي بدا هو نفسه فقيرا بألوانه … يبعث الكآبة في النفس ، وليس كما كان في بهاء لوحته الاولى .
حملها في الصباح ليريها لأُمه ، فقبلته وقالت له إسرع بها الآن الى قاعة العرض . فسألها : هل سيقبلون بها ؟ قالت له : إسرع وبعد ذلك ستعرف .
أسرع الطفل بلوحته الحزينة وهو لا يريد المشاركة بها لأنه يعلم مدى الظُلمة الذي تتمتع به ، ولكنه فعلها امتثالا لرجاء أُمه . دخل الى قاعة العرض فاستقبله مدير مدرسته هاتفا به :
- أين لوحتك يا شادي ؟
فرفعها اليه قائلا : ها هي يا سيدي .
نظر المدير الى لوحة شادي وكانت تفتقد الى الألوان الجميلة ، الذي تعود أن يرسم بها ، وقد احتوت صليبا غامق اللون ممتداً في وسطها لا غير .
- ما هذا يا شادي . لوحتك غير صالحة لأن تُعلق في معرض المدرسة السنوي . أنها تفتقر الى أبسط شروط الرسم الفني . وأنت تعرف ذلك يا ولدي .
- أرجوك يا سيدي علقها إرضاء لأُمي فقط ، فأنا مقتنع انها غير صالحة أيضا .
- حسنا … حسنا . هناك زاوية خافتة الإضاءة أنا مضطر لتعليق لوحتك فيها لئلا تشوه إطلالة بقية لوحات المعرض ، ولأنه لا يعقل ان هناك أحدا سيسير باتجاهها ليتطلع اليها .
- موافق يا سيدي .
وأثناء خروج الطفل من قاعة العرض بدرت منه استدارة جعلت عينيه الجميلتين تلتصقان بلوحته الاولى التي سرقت منه معلقة في موضع رئيس من قاعة العرض بجانب شباك عملاق ذو دفتين ، حيث الشمس شارقة من خلال قضبانه الفضية البيضاء / ملقية بأشعتها على لوحته مضيفا اليها بهاء فوق بهائها ، لقد كان منظرها ساحراً . ثم انتبه الى أن لوحته تحمل اسم غيره … لقد كانت تحمل اسم سارقها … ، الذي قام بطلاء اسم شادي وإخفاءه ببعض الألوان المائية وكتابة حروف اسمه بدلا من صاحبها الحقيقي .
نظر شادي الى لوحته متألما وعادت عيناه تسبح في بحر من دموعه الغزيرة وهو يخرج من القاعة دون أن ينبس بحرف واحد ، لأنه غير قادر على إثبات ان هذه اللوحة هي لوحته ، فحتى اسمه قد مُحيَّ منها .
عاد الى البيت وحكى لأمه ما مرَّ به من أحداث . قبلته امه من جبينه قائلة له : ولا يهمك صلي في هذه الليلة الى الرب يسوع المسيح هو الذي سيساعدك على أن تكون من الفائزين .
فأجابها الطفل ضاحكا لأول مرة : أيعقل يا امي أن تفوز لوحتي القبيحة هذه . مستحيل . أنا التي رسمتها وأنا أعرف انه يستحيل عليها الفوز . انك تخدعينني .
- نعم ستفوز لو طلبت ذلك من ربنا يسوع المسيح .
- كيف ؟
- اطلب منه ذلك قبل أن تنام الليلة وسترى .
- وماذا سأقول له ؟
- تكلم معه مثل ما تتكلم معي الآن ، لا شيء غيره .
ركع الطفل الصغير تلك الليلة على حافة فراشه وصلى قائلا :
يا سيدي يسوع المسيح أُمي قالت لي أن أُصلي لك لكي تفوز لوحتي غدا في معرض الرسم الذي تقيمه مدرستنا . أنا أعرف ان لوحتي رديئة جدا وليس هناك أدنى أمل في فوزها
أرجوك أن تكون معي ولكن لا أدري كيف ، أنا أدري انك لا تستطيع أن تصنع أكثر مما صنعته أنا لأنه ليس هناك وقت ، وإذا لم تستطع أن تفعل شيئا … أرجوك لا تحزن لأني أعرف ان لوحتي سوف لا ينظر اليها أحد لأنها عُلقت في زاوية بعيدة خافتة النور كي لا تؤثر على جمال بقية اللوحات المعلقة على جدران قاعة العرض .
أشكرك يا ربي يسوع لأنك سمعتني فقط ، لأني أعرف انه ليس هناك حل ممكن أن تقوم به لمثل هذه المشكلة التي أمر بها .
ونام الصغير .
حضر شادي الى قاعة العرض مصطحبا أُمه ، دخلها وهو يرمق بعينين حزينتين لوحته الكئيبة المنزوية بعيدا عن باقي اللوحات ، ثم معاودا اختلاس النظر مرات ومرات الى لوحته المسروقة وهي تتوسط قاعة العرض .
كان يوما شتائيا بارداً والسماء ملبدة بالغيوم ، ومع ذلك فقد بدأ الزائرون يتوافدون على صالة العرض الغارقة بأضواء باذخة والذي كان جزءً كبيرا منها مسلطا على تلك اللوحة المسروقة ، ولتلطيف هواء القاعة المكتضة بزوارها ، قام المشرف عليها بفتح دفتي الشباك العملاق على مصراعيها لتتسلل نسائم باردة عليلة الى داخل القاعة ، ونتيجة للبرودة الطاغية خارج القاعة لاحظ الزائرون دخول ثلاث طيور مغردة صغيرة حطت فوق حافات عدد من كوات الانارة الصناعية الموزعة في الحدود العلوية لجدران القاعة ، محتمية بدفئها من برودة الطقس الخارجي .
وبعد أن اكتمل تجمع الزائرين في وسط القاعة ، أُغلقت الأبواب حيث بدأت أصوات البرق تعلو منذرة بعاصفة مطرية محتملة . وفجأة انقطع نور التيار الكهربائي في قاعة العرض . وساد ظلام دامس أرجاء المكان ، واستمر البرق يضرب وجه السماء ، ولوهلة بدا للزائرين وكأن لوحة شادي ، المعلقة بعيدا عنهم في زاوية مظلمة ، تنير أرجاء المكان . لقد انبعث نور مضيء من صليبها الوحيد . ساد هرج ومرج في صالة العرض واستدارت رؤوس الزائرين جميعهم نحو لوحة شادي . وتعلقت العيون بمصدر النور المنبعث من رسم الصليب الغامق . وتدافعت الأقدام باتجاه تلك اللوحة الموضوعة بعيدا عنهم ليستطلعوا حقيقة مصدر النور الذي أنار ظلام ليلتهم وعيونهم . وكلما زاد دوي البرق ، زاد تساقط الأمطار ، وزاد دفق النور المنبعث من تلك اللوحة حتى تأكد للناظرين اليها بانها ، تلك التي خالوها كئيبة في أول الأمر ، هي مصدره . ونتيجة للنور المنبعث من صليبها تركت الطيور الثلاث أماكنها العالية ورفرفت بأجنحتها الصغيرة حول نور الصليب الممتد في وسطها ، منجذبة الى ضوءه ، وسمع الحاضرون تغريدا عذباً صادرا من قلب اللوحة . الذي أُلبست ثوب جمال قلَّ نظيره .
حتى شادي نفسه ، لم يصدق ما يجري أمام عينيه ، فقد أطال النظر الى لوحته البعيدة ، وهو فاغرا فاه اندهاشا مما يجري أمامه ، ومن الليل المظلم الذي تحول في لمحة الى نهار ، من النور الخارج من بين خطوط ألوانها الغامقة ملامسا لصفحة وجهه الجميل ، والذي لا يفهم لأصل انبعاثه سببا .
وأثناء الظلام ودون أن ينتبه أحد تطاير رذاذ المطر من الشباك العملاق المفتوح الدفتين داخلا عنوة الى قاعة العرض ليضرب سطح لوحة شادي المسروقة الذي تبللت أجزاءها السفلى بصورة كاملة .
بعد ثلاثة دقائق فقط من هذه الأحداث القصيرة المتلاحقة نجح الفنيون في إيصال نور التيار الكهربائي الى قاعة العرض ، وأسرع مشرفها الى غلق شباكها العملاق ليكتشف ان ماء المطر الذي انساب فوق ألوان اللوحة قد أزال طبقة الألوان العلوية الحديثة التي استعان بها السارق ليمحو اسم صانعها الحقيقي ، وليظهر اسم شادي تحتها يتلألأ .
وكانت مكافأة شادي في نهاية ليلته الساحرة هذه هي … الفوز .
عاد شادي لأول مرة مطمئنا بصحبة أُمه الى بيتهما وقبل أن يدخلا قالت له أُمه ويدها تحتضن بمحبة كف ولدها :
- ألم أقل لك انك ستفوز .
فأجابها شادي مبتهجا ضاحكا :
- لم أفز أنا يا أمي … لقد فاز يسوع